صمدت في وجه الزمن عدة قرون | ![]() | ![]() | ![]() |
جوامع ومساجد تلمسان العتيقة تستعيد إشعاعها الديني والثقافي خلال رمضان
منذ قرون وجوامع تلمسان تستقبل العلماء والمفكرين
تستعيد المساجد العتيقة لولاية تلمسان مع حلول شهر رمضان الفضيل أدوارها الحضارية والتي أنشئت من أجلها قبل عدة قرون وظلت متواصلة كمراكز إشعاع ديني وثقافي من خلال تنظيم الندوات الفكرية والحلقات الحوارية وتقديم الدروس وتنوير الاجيال بكل ما تعلق بالشؤون الدينية والدنيوية على اعتبار أن العلم لا يقتصر على الجانب الديني فحسب. هذه الحركية التي تعرفها جوامع تلمسان كما يفضل تسميتها أهلها نظرا لدورها الروحي والفكري.
شرع القيمون على المساجد عبر مختلف مناطق الولاية قبيل دخول الشهر الكريم في تنظيف المساجد وتهيئتها لاستقبال المصلين الذين يزداد عددهم خاصة المولعين منهم بصلاة التراويح، هذه الأخيرة التي تعرف إقبالا منقطع النظير من التلمسانيين على اختلاف مستوياتهم، وقد بينت جولة قمنا بها بين مختلف مساجد تلمسان والمدن المجاورة لها الاستعدادات الحثيثة.
مسـجـد الـعـبـاد نفحات ن الزمن الأندلسي
بنيت هذه المجموعة المعمارية من طرف المرينيين تكريما لأبي مدين بن شعيب وهو ولي صالح أصله من إشبيلية ودفن بعين المكان خلال القرن 12 م، وقد ساهم في نشر وإشعاع التصوف ببلاد المغرب، تضم هذه المجموعة الهندسية مسجدا وضريحا ومدرسة وحمامات، يشبه تصميمها إلى حد كبير تصميم مسجد سيدي الحلوي بتلمسان (1353)، ويعد المسجد من أهم منجزات الفن المغربي - الأندلسي بالجزائر، حيث يتشكل المدخل الرئيسي للمعلمة كما هو الحال في جامعي قرطبة والقيروان من باب كبير يؤدي إلى بهو مزين بألواح جبسية منقوشة باتقان وتعلوه قبة ذات مقرنصات. يتم الوصول إليه بواسطة درج شبيه بذلك الموجود بباب الشمس ''بويرطة دي لصول'' بطليطلة كسيت الأبواب الخشبية بالبرونز، وهي تؤدي إلى داخل صحن مستطيل تتوسطه نافورة ماء وتحيط بجنباته أروقة تشكل في الجهتين الغربية والشرقية امتدادا لبلاطات قاعة الصلاة، التي يغطيها سقف مائل ذو تجويفات وزخارف هندسية مثل شبكات مسترسلة إلى ما لا نهاية من النجوم والأشكال المتقاطعة والوردية الشيء الذي يوحي إلى القبة الزرقاء، وتتكون هذه القاعة من خمس بلاطات موازية لجدار القبلة تنقسم إلى ثلاث أساكيب وتتكئ على بلاط متعامد مع القبلة، وترتكز العقود على دعامات مزين جزؤها العلوي بتوريق عربي البلاط الأوسط أكثر اتساعا من البلاطات الأخرى ويشكل التقاؤه ببلاط القبلة، وهو تصميم موجود بمسجد أبو دولف بسامراء (العراق) منذ القرن 9 وبجامع القيروان.
المحراب عبارة عن غرفة صغيرة تغطيها قبة ذات مقرنصات، والقوس الذي يمكن من الولوج إليها ذو شكل بيضوي جد متجاوز، وهو يرتكز على أعمدة ذات تيجان مركبة تحتمل تأثيرات الفترة العتيقة وهي مزينة بإفريز يحمل كتابات وبكتف العقد المنمق بغصنيات، يندرج هذا العقد داخل إطار مستطيل تعلوه ثلاث شماسيات جبسية دقيقة الصنع. تذكر هذه الزخارف بتلك الموجودة بمحراب تينمل والكتبية (مراكش)، أما بالزاوية الشمالية الشرقية للباب تلتصق المئذنة المبنية من الآجر والمكسوة بالزليج، وهي ذات أبعاد شبيهة بمئذنة الكتبية، وبخصوص جذعها المربع الزوايا والمتوج بشرافات مسننة والذي يعلوه منور، فيشبه إلى حد كبير مئذنة سيدي الحلوي، وهو مزين بلوحات مستطيلة تضم في الأسفل عقودا متعددة الفصوص كما هو الحال بمئذنة مسجد الشرابليين بفاس، وفي الأعلى تنتشر شبكة من المعينات الناتجة عن تداخل عقود منحنية. وهي متوجة بإفريز من الزخارف الوردية المصنوعة من الزليج.
وقد بني ضريح سيدي أبو مدين ثلاثون سنة قبل البنايات الأولى لقصر الحمراء وهو ذو تصميم مربع يعلوه سقف ذو جناح مغطى بالقرميد الأخضر، ويضم صحنا مربع الزوايا يتوفر على سقيفة ترتكز على أعمدة خشبية ذات تيجان كورنثية، ومن المؤكد أن زخارف الباب وتلك الموجودة بداخل البناية تعود لصانع تركي.
تقع المدرسة وهي مكان لتدريس الفقه والتفسير والعلوم الدينية، غرب قاعة الصلاة وتصميمها المنتظم حول الصحن الذي تحيط به الأروقة يشبه كثيرا تصميم الرباط المغاربي، يتم الولوج إلى داخل البناية عبر باب كبير ذو زخارف متعددة الفصوص مصنوعة من الآجر وشبيهة بتلك التي تزين مدرسة أبي الحسن بسلا (المغرب)، وبداخل الصحن ينفتح باب على قاعة الصلاة والدروس التي تتوفر على محراب سداسي الأضلاع مزخرف بزليج تركي ومتوج بقبة صغيرة نصف كروية.
سيـدي الـحـلـوي حوار الفنون والثقافات
يحمل هذا المسجد مميزات العمارة المرينية، فهو ذو تناسق تام ويتخذ شكل مستطيل أكثر طولا منه عرضا، يشبه في ذلك مسجد حسان بالرباط وجامع قرطبة يحيط بالبوابة الكبيرة للمدخل الرئيسي إفريز من الزليج مكون من أشكال نجمية ذات ثمان رؤوس، يعلو هذه الأخيرة شريط لزخارف هندسية فوقها نقيشة كتب عليها تاريخ البناء واسم مؤسس المعلمة، توجت الواجهة بسقيفة تحملها 13 حاملة إفريز ترتكز بدورها على شريط ابيغرافي كتب بالخط الكوفي، ويغطى السقيفة سطح من القرميد الأخضر، يتخذ هذا الباب شكل بناء متقدم مستوحى من أبواب مسجد تينمل، وهي ميزة نادرة لا نجدها في أي مسجد آخر سابق بالجزائر أو المغرب. فتح هذا الباب في محور المحراب، وهو يؤدي إلى صحن مربع تحيط به أروقة تضم قاعة الصلاة مكونة من خمس بلاطات متوازية مع جدار القبلة ترتكز على ركائز وأعمدة، وعلى غرار مسجد تينمل، تتوقف صفوف الأقواس قبل بلوغ الأسكوب المحاذي لجدار القبلة وهو مايعطي، عند التقائه بالبلاط المحوري، تصميما على شكل ''T''، وقد عرف هذا التصميم بمسجد أبي دولف بسامراء (العراق) وبجامع القيروان، تستند أقواس البلاطات على أعمدة رخامية، وبفضل تصميمه ومكونات واجهاته، يشبه مسجد سيدي أبي مدين العباد بتلمسان (1338)، أما محراب المسجد ذو كوة سداسية الأضلاع تغطيها قبة مثمنة ذات مقرنصات، وهو يستوحي عناصره من المحارب الموحدية لتينمل والكتبية (مراكش)، فالقبة ذات المقرنصات التي أصلها من إيران سبق استعمالها في المغرب بمسجد تنمل الذي بناه عبد المومن بن علي. أما التيجان التي تعلو أعمدة المحراب فتذكر بتلك الموجودة بمدينة الزهراء وبمسجد القرويين بفاس التي تستوحي بدورها عناصرها من التاج المركب للفترة العتيقة.
من جهتها، تتوفر أكتاف العقود على زخرف مشكل من شريط منقوش بعناصر نباتية نجد لها مثيلا بجامع القيروان وقصر الحمراء بغرناطة، ويحتمل أن تكون هذه التيجان والأعمدة الجميلة قد جلبت من قصر المنصورة الذي لم يكتمل بناؤه، وتمنح السقوف التقليدية المصنوعة من خشب الأرز زخارف هندسية متشابكة مكونة من نجميات ومثمنات ومعينات ومربعات تذكر بتلك الموجودة بالمدرسة المرينية المعاصرة لها: البوعنانية بفاس وبناية طاير دي لمورو بطليطلة، وهو نوع من السقوف ورثه المرينيون عن الموحدين الذين كانوا سباقين لاستعماله خاصة بمسجد الكتبية بمراكش.
ترتفع الصومعة في الزاوية الشمالية الغربية للمسجد وهي تشبه صومعة سيدي أبو مدين، إذ تتخذ البناية شكلا مربع الزوايا وتنقسم إلى جزئين: البرج الرئيسي والمنور المزين بشبكة من المعينات، وبهذا اللوح توجد ثقوب محاطة بقويسات ذات أركان هندسية، تذكر هذه الصومعة بمآذن بني عبد الواد، أما الزخرف المصنوع من الزليج المستوحى من الصوامع الموحدية للكتبية والقصبة بمراكش فيميز الفن المريني الذي يتجسد في صومعتي البوعنانية والجامع الكبير بفاس.
سيـدي بـلـحسن وجمال الحضارة الإسلامية
يقع هذا المسجد الذي تغيرت وظيفته إلى متحف في الجانب الغربي للساحة المجاورة للمسجد الكبير لتلمسان بنيت هذه المعلمة الفنية سنة 1296 تخليدا لذكرى الأمير أبي إبراهيم ابن يحيى يغمراسن بعد وفاته كما تدل على ذلك الكتابة المنقوشة على لوح من المرمر مثبت على الحائط الغربي لقاعة الصلاة وسط الصف الثالث، وكذا النقيشتين المصنوعتين من الجبص اللتين تعلوان المحراب، يعتقد أن الاسم الحالي للبناية منبثق من اسم القاضي والعالم الشهير أبي الحسن بن يخلف التنسي الذي مارس القضاء تحت حكم السلطان أبي سعيد عثمان (1283-1303)، هذا المسجد الذي يعود لفترة بني عبد الواد، ذو أبعاد متواضعة بالمقارنة مع المساجد المتواجدة داخل المدينة، يتميز تصميمه بغياب الصحن والبلاطات الموازية لجدار القبلة. تنقسم قاعة الصلاة إلى ثلاث بلاطات وثلاثة أساكيب يحدها صفان من العقود المكسورة التي ترتكز على أعمدة من المرمر تعلو بعضها تيجان جميلة، صنعت السقوف من عوارض متشابكة من خشب الأرز تمنح أول نموذج جزائري لهذه التجاويف التي طورت ثلاثة أو أربعة قرون قبل ذلك بالأندلس.
ينفتح المحراب بعقد متجاوز داخل إطار مستطيل تعلوه ثلاث فتحات تحتلها شماسيات مفرغة بزخارف وردية، وتعد زخارف هذا المحراب من روائع أعمال النقش على الجبس، فجنبات العقد مؤثثة مناوبة بعناصر نباتية وأخرى كتابية، ومن الأركان تنبعث زخارف دقيقة نائية وحلزونية الشكل على الأرضية تتشكل من نجمة ذات ثمانية شعب وغصنيات، ويمثل هذا المحراب قمة الفن المغربي-الأندلسي، فهو ذو تصميم سداسي الأضلاع وتغطيه قبة ذات مقرنصات شبيهة بتلك الموجودة بكل من جامع القرويين بفاس، ومسجد تينمل والكتبية (مراكش)، تتشكل كوته التي تنطلق من تصميم مثمن لتبلغ القبيبة ذات الأضلاع التي تغطيها، من مستطيلات معقوفة ومفرغة ومن معينات ومثلثات وعناصر كمثرية الشكل.
زين الجزء السفلي للتيجان بعناصر نباتية متعرجة ومقوسة وهو تقليد مختزل لتيجان الأقنثة العتيقة، أما الجزء العلوي ذو الشكل المتوازي السطوح، فيتكون من زخارف نباتية تذكر ببعض تيجان جامعي قرطبة وتلمسان أما التيجان الأخرى فتقدم زخرفا محوريا مشكلا من سعيفات ترتكز على أوراق الأقنثة السفلية، هذه العناصر الزخرفية الموجودة في الفن القوطي ظهرت في الغرب الإسلامي بالجعفرية بسرقسطة، كما تحتل الصومعة، المبنية من الآجر والمكونة من برج ومنور، الزاوية الجنوبية الشرقية للبناية، يتم الصعود إلى سطحها بواسطة درج يحيط بنواة مركزية، تزين واجهاتها الأربعة سلسلة من الإطارات المستطيلة التي تملأ بعضها شبكة من المعينات المنحنية الأضلاع وبعضها الآخر عقود مفصصة، وعلى واجهاته الأربع، ينفتح المنور بعقود مفصصة. كما تغطيه زخارف من الزليج الجميلة والمتعددة الألوان، هذا الزخرف المميز لصوامع الفترة الموحدية ظهر لأول مرة في جامور الكتبية (مراكش) ويحتل مكانة كبيرة بصومعة حسان بالرباط والخيرالدة بإشبيلية وخاصة بمسجد القصبة بمراكش، ومن بين كل المعالم الموجودة بتلمسان، يعد مسجد سيدي بلحسن البناية التي تشبه إلى حدّ كبير الانجازات المعمارية المغربية والأندلسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق